فجأة وجهت لي صفعة من القدر بشكل عبثي عن غير قصد , بلفتها نظري إلى حقيقة غابت عني كغياب هذا العمر في متاهة الحياة ..
فجأة أحسست للحظات كم سُرق مني عمري , وفجأة أحسست كم كرهي للحياة وللناس ولكل ما حولي ..
قالت ضاحكة ببراءة : " معقولة عمرك هذا وللآن .. " , كانت هذه الكلمات كافية لتدور بي الأرض وبما حولي ..
نعم فجأة تذكرت أنني لأكثر من نصف عمري وأنا أعيش في ظلمات ثلاث !..
فجأة أصبح كل شيء صامت , لا إحساس ولا معنى فقط الصمت الرهيب . صمت كل شيء حولي , لم أعد أحس بشيء من حولي كمن فقد كل حواسه الخمس .
فجأة أكتشفت أنني و"سيزيف" متشابهان كأننا وجهان لعملة واحدة , هو يدفع صخرته الكروية لأعلى قمة الجبل فتسقط متدحرجة ويعود بلا ملل أو كلل لدفعها للأعلى مرة أخرى متحديا كل شيء حتى القدر وظروف الطبيعة .
الفرق الوحيد بيننا أنني هنا أنا الكرة التي تتدحرج ساقطة كل مرة لأنتفض صعودا إلى أعلى قمة جبل الحياة في انتظار الضربة القادمة .
هكذا سُرق عمري سقوط مستمر للأسفل وصعود متكرر للأعلى في إنتظار الضربة القاضية التي تجعلني أتلاشى من الوجود المحتوم .
يتغير كل شيء من حولي , تدب الحياة في مكان وتتلاشى في آخر , وأنا مازلت في سقوط وصعود متكرر , كدوامة مقدرة لا متناهية من التكرار والحدوث .
كلماتها العبثية كانت كافية لسقوط من نوع مدوي , سقوط لايمكن نسيانه هذه المرة . كان الأجدر بها التلطف في إختيار طعنات كلماتها المؤلمة , " كلماتها العبثية " أفقدتني كل شيء أوعلى الأقل ما تبقى لدي من الظلمات .
" فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ " , ليتها صمتت قبل اليوم ! .
" المقاعد الخالية " تَحسُ بي . تحسُ بوجعي وفرحي .
هيَ مَنْ إحتظنَ أولَ لقاءٍ لي " بها " وآخِرُ لقاء , هيَ مَنْ كانت شريكُ أحلامُنا وفرحنُا وآهاتنُا .
هيَ مَنْ تستقبلنا بحضنٍ باكي مشاركاً لنا في حُزننا , وهي مَنْ تفرحُ مَعنا في كُلِ موجةَ ضَحكٍ عارمٍ تنتابُنا .
ليست " مقاعدٌ خالية " بالنسبةِ لي , ها أنا أراها هُناك تماماً عَلىَ آخرِ مَقعدْ ناظرةٌ إلىَ السماءِ داعيةً بأن لا يكونَ قد أصابني مكروهاً .
جالسةٌ تحتضنُ نفسَها مِنْ زمهريرِ البردِ القارس دامعةً في شوقٍ إليَ متلهفةً لبروزَ هالتي مِنَ البعيدِ بَعد طولِ إنتظار .
هيَ شريكُنا في أسرارُنا وأفراحنا , وهيَ مَنْ يُشاركُنا لحظاتِنا الحميمة , هيَ نفسُهَا " المقاعدُ الخالية " .
في " المقعدِ الأوسط " إحتظنتني لأول مرة وقالت : " أُُحبُكَ حدَ الجنون أيُها المجنون " .
وفي " أولِ مَقعدٍ " هُنا تعرفتُ عَليهَا وكانت " كالهبةِ " التي لا تُقدر بثمنٍ بالنسبةِ لي , هِبةًُ مَنحنتي حياةٌ أُخرى بَعدَ إنقطاعُ الرجاءِ .
هُنا أمضيتُ مَعهَا أولَ لقاءٍ لنا , ولَمْ أُصدقَ عِندَ وصولي إلى منزلي أني أمضيتُ مَعهَا " إثنا عشر ساعة " متواصلة ! .
لَمْ يَملُ أحدُنا الآخر , كُنا نتحدثُ ونضحكُ كالمجانين , كُنا كَمن ينتظرُ أحدُنا الآخر طوالَ هذهِ السنوات التي مَضت ليُفرغَ أسرارهُ وأوجاعهُ في قلبِ الآخرِ دُفعةً واحدة , ليستريحَ مِنْ عَناءَ حَملُُها وحيداً .
وهُناكَ في " المقعدِ الثالث " أولُ جَرحٌ أصابني مِنهَا , هُناكَ جلستُ أُكابدُ إنهمارُ دمعيَ كرجلٍ إعتادَ الصُمودَ في وجهِ صَدمات الحياة . هُناكَ ضَاقت أنفاسي وضاقت عَليَ الأرضُ بمَا رحُبتْ . هُناكَ عَلى ذاكَ المقعدُ المشؤم قالت لي : " يبدو أني أخطأتُ بتقبُلكَ وإقحَامِكَ في حياتي , ويبدو أني كُنتُ مُستعجلةً في إتخاذ القرار بأن أُحِبُكَ " ! .
" أخطأت " ! بَعدَ كُلَ هذا الصُمود في وجهِ الحُبِ وبَعدَ كُلَ هذا العُمرَ يبدو أنها " أخطأت " في إختياري ! .
بَعدَ كُلَ هذهِ المشاعرُ وبَعدَ كُلَ جُنونَ الحُبِ الخالص " أخطأت " ! .
كُنتُ أغارُ عَليهَا حتى مِنَ " المقاعدِ الخالية " ذاتُها , كُنتُ أودُ أن أحمِلُهَا بَينَ ذِراعيَ وأطيرُ بها فرحاً وأن لا تطأ أقدامُنا الأرض , وهيَ ببساطة " أخطأت" .
ومِنْ ذالكَ " المقعدُ الخامس " رحلت وقالت : " وداعاً - بعينٍ مِلئوها الدُموعَ - لا أعتقدُ أننا سنتاقبلُ مرةً أُخرى ! " .
وأنا لًمْ أزل آتي كُلَ يومٍ لأعيشَ مَعَ " المقاعدُ الخالية " ذكرياتُ أجملَ حُبٍ وهبتني أياهُ السماء . ولي في كُلِ " مقعدٍ خالٍ " ذِكرى مَا مِنهَا .
وعند " المقعدُ الرابع " أتذكرُ عَبقَ عِطرُها الـ " gucci ruch " , الذي يُصيبُني بالإثارةِ كلما أقتربتُ مِنهَا . أتذكرُ كُلَ هَذا أنا و" المقاعدُ الخالية " .
أتذكرُ وأعيشُ عَلىَ ذِكرَاها أولَ قصيدةِ حُب قالتها لي ونحنُ جالسان على " المقعدُ السادس " , وضِحكاتُها المُتشنجةُ بَعدَ رَدتَ فِعلي وتعليقاتي الساخِرةَ عَلىَ شِعرُها الذي بَدا لي ككلمات كتبتها فتاة مراهقة في الرابعة عشر من عمرها لا إمرأة ناضجة .
لم يبقى لي في حياتي للأسف سوى ذكرى حُبٍ مجنون و" مقاعدٌ خالية " ! .